تحولت دورات أكتوبر بعدد من الجماعات الترابية إلى مشاهد عبثية، عكست حجم الاختلالات البنيوية التي تعاني منها الديمقراطية المحلية بالمغرب. بدل أن تشكل هذه الدورات مناسبة للتقييم وترسيخ ثقافة المحاسبة، تحولت إلى ساحة لتبادل الشتائم والعنف الرمزي والمادي بين المنتخبين، في مشهد ينذر بانحدار خطير في العمل السياسي المحلي.
الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي وثّقت حالات الشجار والفوضى داخل بعض المجالس، لم تكن مجرد حوادث معزولة، بل تجليات صادمة لأزمة أعمق. أزمة تُغذّيها تحالفات هشة أفرزتها انتخابات شتنبر 2021، مبنية على منطق الغنيمة السياسية أكثر من منطق البرنامج والانتماء، وهو ما جعل بعض المجالس تسير برؤوس متعددة وأولويات متضاربة.
التأزم لم يبق حبيس جدران قاعات الاجتماعات، بل تجاوزها ليصيب علاقة الجماعات الترابية بمحيطها السوسيوسياسي. فالمواطن، الذي يفترض أن يكون المستفيد الأول من سياسات التنمية المحلية، بات يتابع هذه المشاهد بسخط وسخرية، ما يكرّس الشعور بالاغتراب الديمقراطي، ويعمّق الفجوة بين المجتمع والمؤسسات المنتخبة.
ولعلّ أخطر ما يكشف عنه هذا الانحدار، هو تآكل الثقة في جدوى الانتخابات، وتنامي الإحساس بأن العملية السياسية صارت مجرد واجهة شكلية، لا تعكس إرادة التغيير أو تحسين الأوضاع. وهو ما يُفسّر ارتفاع الأصوات المطالِبة بإغلاق الجلسات العمومية ومنع التغطية الإعلامية، كنوع من ستر العجز السياسي عن الرأي العام.
المفارقة أن هذه الدورات تُعقد في مرحلة توصف بـ”طواف الوداع” للعديد من المنتخبين، الذين يتهيأ بعضهم لتغيير الولاءات السياسية استعداداً للانتخابات المقبلة. بدل إنهاء الولاية بحصيلة مشرفة أو بتقارير محاسبة واضحة، تُفضل بعض المجالس الانخراط في تحركات انتخابوية مبكرة، تطغى عليها لغة الحسابات الضيقة والاصطفافات الانتهازية.
من جهة أخرى، تُظهر هذه الأزمة ضعف آليات التأطير الحزبي، وغياب النضج المؤسساتي داخل التنظيمات السياسية، التي فشلت في فرض الانضباط الداخلي على منتخبيها، وتركت الباب مفتوحاً أمام الترحال السياسي والمزايدات الخطابية التي لا تنتج قرارات ولا تصنع حلولاً.
وفي ظل هذا الوضع المأزوم، يصبح من الضروري إعادة النظر في علاقة الدولة بالجماعات الترابية، ليس فقط من زاوية التمويل والتأطير، بل أيضاً عبر تقييم عميق لمسار اللامركزية، وربط المسؤولية الانتخابية فعلياً بالمحاسبة، مع تعزيز دور القضاء الإداري والمالي في مراقبة تدبير الشأن المحلي.
إن ما يحصل اليوم في قاعات المجالس الجماعية ليس مجرد إخفاقات تنظيمية، بل إنذار حقيقي بانحدار الممارسة الديمقراطية على المستوى المحلي، ما لم يُتدارك الأمر بتدخلات عاجلة على مستويات متعددة: تشريعية، مؤسساتية، وأخلاقية.